أولا ً - مفهوم الحق والابتكار:
1- الحق لغة: يطلق الحق على المال، والملك، والموجود الثابت.
2- الحق اصطلاحا ً اختصاص حاجز.
والاختصاص علاقة أو رابطة بين شخص وشيء، أو بين شخص وشخص، تمنح صاحبها استئثارا ً على موضوعها.
3- أركان الحق: للحق ركنان، هما صاحب الحق، ومحل الحق.
صاحب الحق: قد يكون هو الله تعالى، أو العبد، أو يكون الحق مشتركا ً بين الله وبين العبد.
محل الحق: ما يتعلق به الحق، ويَردُ عليه، كالدار التي يملكها الإنسان، والديون التي له في ذمة الغير.
4- أنواع الحق: يمكن تقسيم الحق باعتبارات متعددة:
1- تقسيم الحق باعتبار صاحب الحق: ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- حق الله: ما يتعلق به النفع العام للعالم، فلا يختص به أحد، ولا يمكن إسقاطه والتنازل عنه، كالعبادات، وحد الزنا.
ب- حق العبد: ما يتعلق به مصلحة خاصة، كحقوق الأشخاص المالية.
وحق العبد يباح بالإباحة
ج- الحق المشترك: هو الذي يجتمع فيه حق الله وحق العبد.
لكن إما أن يغلب فيه حق الله أو حق العبد، كحد القذف، فالغالب فيه حق الله عند الحنفية.
2- تقسيم الحق باعتبار محل الحق: ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- الحق المالي والحق غير المالي:
- فالحق المالي: هو الذي يتعلق بالأموال والمنافع.
- والحق غير المالي: هو الحق المجرد كحق الشفعة، وحق الحضانة، وحق الأبوة والبنوة.
- ولا تقبل هذه الحقوق التنازل عنها بمال.
ب- الحق الشخصي والحق العيني:
- الحق الشخصي: ما يقرّه الشرع لشخص على آخر، كالدين لشخص في ذمّة الآخر.
- ولا يثبت على شيء معين بالذات بل يثبت في الذمة.
- الحق العيني: ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات، كحق الملكية الثابت لمالك العقار، فيخوله سلطات الاستعمال والاستغلال والتصرف.
ج- الحق المجرد والحق غير المجرد:
- الحق المجرد: ما كان غير متقرر في محّله، فلا يترك أثرا ً بالتنازل عنه، كحق الشفعة.
- الحق غير المجرد: ما له تعلق بمحل الحق، فلتعلقه بمحل الحق أثر يزول بالتنازل عنه كحق القصاص.
5- تعريف الابتكار:
1- الابتكار لغة: البُكرة الغدوة، وكلّ من بادر إلى شيء فقد أبكر إليه في أي وقت كان.
فمن ألف كتابا ً لم يسبق إليه، أو اخترع شيئا ً سمي مبتكرا ً.
2- الابتكار اصطلاحا ً: عرّفه الدكتور فتحي الدريني بقوله: الصّور الفكرية التي تفتقت عنها الملكة الراسخة في نفس العالم أو الأديب ونحوه، ممّا يكون قد أبدعه هو ولم يسبقه إليه أحد.
6- دراسة تاريخية لحق المؤلف:
اخترع الإنسان الكتابة، فكانت وسيلة لنقل المعلومات إلى الآخرين، وكانت الكتابة في أول الأمر على الحجارة والعظام وغيرهما، إلى أن اخترع الإنسان الورق.
وهكذا تيسر للعلماء تدوين أفكارهم، وتناقلها الناس في الماضي عن طريق النسّاخ، وقد عرف بعضهم بامتهان مهنة نسخ الكتب وبيعها، وكان الذي يتقاضى الأجر هو الناسخ دون المؤلف، إذ لم يكن للمؤلف في الماضي إلا الحق العلمي، ولم يكن هناك حق مادي للمبتكر أصلا ً.
ثم ظهرت الطابعات التي تقذف آلاف النسخ في مّدة وجيزة، وأعقب ذلك ظهور دور النشر والمكتبات، فبرزت للوجود فكرة الحق المادي للمؤلف، وهو ما اعترفت به كل قوانين العالم، وقد كان للعلماء في هذا العصر نظر في الحق المادي للمؤلف، وهو ما سنعرفه فيما بعد إنشاء الله تعالى.
7- طبيعة حق الابتكار:
1- صاحب حق الابتكار: يبدو أن هناك ثلاثة مجالات يمكن النظر فيها لتحديد صاحب حق الابتكار وهي: أ- حق النسبة: أي نسبة المؤلَّف للمؤلِّف، فالنسبة من حقوق العباد، وهي تشبه نسبة الولد للوالد.
وهذا الحق وإن كان من حقوق العباد، إلاّ أنه لا يجوز التنازل عنه، وهذا مستثنى من قاعدة حقوق العباد، إذ الأصل فيها جواز التنازل عنها إلا أن بعضا ً منها لا يقبل التنازل كالنسب، وحق الابتكار مثله.
ب- حق الله في الابتكار: عرفنا أن حق الله ما يتعلق به النفع العام للعالم، فلا يختص به أحد، فهو يعود إلى المجتمع كله بالنفع.
والابتكار بهذا النظر يمكن اعتبار حق الله فيه، فلا بد من نشره، وعدم كتمانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كتم علما ً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).
إلا أن هذا لا يستلزم بذله مجانا ً، فالقوت مثلا ً يحرم احتكاره، لكنه لا يبذل مجانا ً على جهة الإلزام.
ج- الحق المادي في الابتكار: هذا الحق إن ثبت فهو من حقوق العباد، فيقبل التنازل عنه ومعاوضته بمال، وسنذكر فيما بعد آراء العلماء فيه - إن شاء الله تعالى.
2- حق الابتكار حق شخصي أو حق عيني؟:
عرفنا أن الحق الشخصي يثبت في الذمة ولا يثبت على شيء معين بالذات أما الحق العيني فيثبت على شيء معين بالذات.
ويبدو أن حق الابتكار حق عيني، لأن الابتكار هو الصور الفكرية، إلا أن هذه الأفكار لا يمكن الاطلاع عليها والاستفادة منها، إلا إذا دوّنت في كتاب.
8- حق الابتكار حق معنوي مجرد أو هو حق مالي؟
- في زمان الماضي كان الابتكار حقا ً معنويا ً مجردا ً يتمثل في نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وعدم جواز انتحاله، ولم يكن للمؤلف الحق المالي، وما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أنه كان للمبتكر في الزمان الماضي الحق المادي، ويتجلى ذلك من خلال الأعطيات التي يكرم بها المؤلفون، ومن خلال الرواتب المقررّة للمدرسين.
فهو محل نظر، لأن الأعطيات من باب التبرعات لا معاوضة الحق، ورواتب المدرسين لا صلة لها بالحق المادي للمبتكر، لأن المؤلف لم يشرك المدرس الذي يتقاضى الأجر على تدريس كتابه، وقد كان المدرس يتقاضى الأجر على عمله، وهو التدريس، والتدريس غير التأليف.
- أما في هذا الزمان فبرزت مسألة الحق المالي للوجود بعد انتشار الطابعات، ولا نجد حكم هذه المسألة في كتب الفقهاء لأنه لم يجر ِ العرف ُ في زمانهم على مالية حق الابتكار، وقد اختلف العلماء في هذا العصر في مالية الابتكار على قولين، سأذكرهما مع الأدلة وبيان الراجح.
- فقلة من العلماء في هذا العصر ذهبت إلى أنّ المؤلف ليس له إلا الحق العلمي، والشريعة لا تقرّ الحق المادي للمؤلف، وذهب السواد الأعظم من العلماء في هذا العصر إلى ثبوت الحق المادي للمؤلف، بالإضافة إلى ثبوت الحق العلمي له.
- وقبل بيان أدلّة العلماء، أذكر مذاهب الفقهاء في معنى المال، وكيف تصبح الأشياء مالا ً ليمكننا تخريج هذه المسألة على آراء الفقهاء.
- فالمال عند الحنفية: اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه.
- أو هو: عين يجري فيه التنافس والابتذال، فيخرج ما ليس بمال كحبّة من نحو شعير وكفّ تراب وشربة ماء، كما يخرج الميتة والدم.
- يتضح مما سبق أن المال عند الحنفية عين أو ما يمكن إحرازه، وهذا القيد لإخراج المنافع كسكنى الدار، فإنها لا تعدّ مالا ً بحدّ ذاتها، لأن المنافع أعراض لا تبقى زمانين، ولا يمكن إحرازها , إلا أنهم قالوا إن ّ المنافع تصير أموالا ً بورود العقد عليها.
- كما يتضح أن الأعيان تكون أموالا ً عند الحنفية، إذا كان الناس يتمولونها ويبيح الشارع الانتفاع بها.
- فحبة الشعير لا تعد ّ مالا ً على الرغم من إمكان إحرازها لتفاهتها، كما أن الميتة عين يمكن إحرازها إلا أن الشارع حرّم الانتفاع بها فلا تكون مالا ً.
- إذن بمقتضى مفهوم المال عند الحنفية فإن الابتكار لا يعدّ مالا ً بحدّ ذاته لأنه من المنافع، والمنافع لا تعدّ أموالا ً بحد ّ ذاتها، إلا أنه إذا ورد العقد على الابتكار فإنه يصبح مالا ً، وليس هناك نص يمنع ورود العقد على الابتكار والله تعالى أعلم.
- والمال عند الجمهور: ما له قيمة يباع بها وهو أعيان أو منافع، وبذلك يظهر أن الحنفية والجمهور متفقون على أن ّ العُرف هو الذي يضفي وصف المالية على الشيء، فإذا تعارف الناس على مالية عين فإنها تكون ذات قيمة بشرط عدم وجود نص مانع.
- إلا أن الجمهور خالفوا الحنفية في اعتبار المنافع أموالا ً بحد ذاتها.
- فيتضح أن الابتكار يمكن أن يكون مالا ً عند الجمهور إذا جرى العُرف بماليته، والله تعالى أعلم.
- آراء العلماء في مالية الابتكار وبيان أدلتهم ومناقشتها:
- القول الأول لقلة من العلماء: لا يعد ّ الابتكار مالا ً ولا يتضمن الحق المادي، بل هو حق معنوي مجرد. وحجتهم:
1- قوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كتم علما ً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).
وجه الاستدلال: إنّ حبس المؤلف كتابه عن الطبع والنشر إلا بمقابل عوض مادّي يؤدي إلى كتمان العلم، فيناله الوعيد، فيمنع من ذلك.
المناقشة: أ- إن تحريم كتمان العلم يحتمل الدلالة على عدة معان منها:
إظهار الزيف وإخفاء الحق يدل على ذلك سبب ورود الآية، وهو ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال سأل معاذ بن جبل وخارجة بن زيد وسعد بن معاذ نفرا ً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
والآية خارجة عن محل النزاع، لأن المؤلف لا يكتم العلم بل يطبع وينشر ومحلّ النزاع هل يعدّ حق الابتكار حقا ً ماديا ً أو لا يعد كذلك.
ب- إن القول بتحريم كتمان العلم لا يستلزم نفي وصف المالية عن الابتكار.
بيان ذلك أن ّ كتمان العلم كاحتكار المنافع والسلع حيث يخفيها أصحابها والناس في حاجة ماسة إليها، ولم يقل أحد إن ّ حرمة الاحتكار تستلزم بذل السلع والمنافع مجانا ً، بل الواجب بيعها على أساس القيمة أو ثمن المثل.
2- إن العلم عبادة، فهو ليس صناعة ولا تجارة تدر المال، ومن ثم فلا تجوز المعاوضة عليه.
المناقشة: أجاز جمهور الفقهاء الاستئجار على تعليم العلم الشرعي، فلم لا يجوز على التأليف؟! وهؤلاء الذين لم يجيزوا اعتبار حق التأليف حقا ً ماديا ً يقابل بمال يتقاضون الأموال على تدريس علوم الشريعة، فكان بنبغي عليهم أن لا يتقاضوا المال على التدريس!.
على أن متقدمي الحنفية وبعض المالكية والحنابلة في رواية منعوا الاستئجار على تعليم العلم الشرعي، وسبب ذلك أن المعلمين كانوا يتقاضون المرتبات من بيت المال، وبما أن الأعطيات من بيت المال قد انقطعت لذلك أفتى متأخرو الحنفية، ومن معهم بجواز أخذ الأجر على تعليم العلم الشرعي، إذ لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
على أنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا ً كتاب الله) فلئن جاز أخذ الأجر على قراءة القرآن فلئن يجوز في غيره من باب أولى.
3- إن بذل المصنَّف للنشر والانتفاع وإباحة ذلك لكل من يريد طباعة الكتاب دون عوض يحقق مقصدا ً من مقاصد الشريعة بتحقيق مصلحة انتشار العلم بين الناس.
المناقشة: إن دعوى بذل المصنف للنشر والطبع وإباحته لكل من يريد طباعته لا تحقق المصلحة المذكورة بانتشار العلم.
بيان ذلك أن دور النشر لا توزع الكتب مجانا ً ولا تتقاضى ثمن الحبر والورق فقط، بل تزيد على ذلك مبلغا ً من المال، وهذا هو الحق المادي في الابتكار، والمؤلف أولى به من دار النشر.
على أن هذا الدليل يرد أيضا ً على تعليم العلم الشرعي، ولا يقول هؤلاء بتدريس العلم مجانا ً
4- قياس حق الابتكار على حق الشفعة، فلّما لم يجز الفقهاء أخذ المال على التنازل عن حق الشفعة، كذا لا يجوز أخذ الأجرة على الابتكار، بجامع أن كلا ً منهما حق مجرد.
المناقشة: إن عدم جواز التنازل عن حق الشفعة مقابل مبلغ من المال ذكره الحنفية.
على أن القياس مع الفارق، لأن حق الشفعة ثبت لدفع الضرر وليس كذلك حق الابتكار.
القول الثاني: وهو لأكثر أهل العلم في هذا العصر وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي:
يعد حق الابتكار حقا ً ماديا ً علاوة على الحق العلمي المعنوي.
أدلتهم: 1- العرف: فالشيء يصبح مالا ً إذا تعارف الناس على ماليته ولم يكن نصّ خاص يمنع من ماليته.
وقد تعارف الناس على مالية الابتكار فيصبح مالا ً.
2- المصلحة المرسلة: فليس هناك نص يمنع من القول باعتبار مالية الابتكار، كما أنه ليس هناك نص يعتبر الابتكار مالا ً فتكون المسألة في المصالح المرسلة، والمصلحة تقتضي اعتبار الابتكار مالا ً لأن هذا يحقق مصلحة المؤلف ومصلحة المجتمع، أما المؤلف فإنه لا يستطيع أن يبدع ويبتكر غالبا ً إلا بعد تأمين احتياجاته المادية، وحفظ هذا الحق حافز له على التأليف، وأما المجتمع فالمصلحة تنعكس عليه بكثرة المبدعين، والله تعالى أعلم.
9- توقيت الحق المالي في الابتكار:
اتفقت قوانين العالم على أن الحق المالي في الابتكار مؤقت، وأما الحق العلمي أو الأدبي فهو للمؤلف ويستمر بعد وفاته له.
وقد اختلفوا في مدة بقاء الحق المالي، فأغلب القوانين ترى أنه يبقى للمؤلف مدة حياته، ولورثته خمسين سنة من تاريخ وفاة المؤلف، فإذا انقضت المدة يتحول الحق المالي إلى ملكية عامة، فيمكن لأي شخص أن يطبع الكتاب ويستفيد ماديا ً منه.
- أما في الشريعة الإسلامية، فقد اجتهد الدكتور فتحي الدريني ورأى أن الحق المالي في الابتكار مؤقت أيضا ً، فيبقى للمؤلف مدة حياته، ثم ينتقل إلى ورثة المؤلف بعد وفاته، ويبقى لهم مدة ستين سنة فقط، فإذا انقضت المدة أصبح المؤلَّف حقا ً مشتركا ً للأمة.
- ويمثل الأمة مؤسسة أو جهة خيرية تستغل الكتاب وتصرف الأرباح في وجوه البر العامة كطلب العلم، وبناء المدارس والمشافي، كما أنه يمكن لدار نشر أن تطبع الكتاب وتأخذ نسبة معقولة من الربح نظير الأتعاب.
- وحجة الدكتور الدريني: أ- إن الابتكار نسبي لأنه يستند إلى تراث السلف وهو حق عام للأمة. ب- قياس الابتكار على الأرض الموقوفة، فيمكن أن تؤجر ستين سنة على ما ذكره الفقهاء، فكذلك يبقى الحق المالي في الابتكار لورثة المؤلف ستين سنة من تاريخ وفاته.
مناقشته: ما ذهب إليه الدكتور الدريني محلّ نظر، بيان ذلك:
أ- أما إن الابتكار نسبي فهذا هو الغالب فيه، إلا أنه جهد المؤلف في جمع المعلومات المتفرقة ومناقشتها والإضافة عليها، يقتضي نسبة المؤلف إليه، وهذا ما لا خلاف فيه، وأن النسبة لا تقبل التأقيت.
ثم إن العرف قضى بمالية الابتكار، وإن كان كذلك فهو حق عيني وهو ما ذكره الدكتور الدريني، فيكون من حقوق الملكية وحق الملكية ليس حقا ً مؤقتا ً.
ب- قياس الابتكار على الأرض الموقوفة قياس مع الفارق، ذلك أن علّة ثبوت ملكية منفعة الأرض للمستأجر ثبوتها له بعقد الإجارة وعقد الإجارة في أصله مؤقت ولا يصح أن يكون مؤبدا ً، وقد قيد الفقهاء أقصى مدة لإجارة أراضي الوقف بتلك المدة حتى لا يدعي المستأجر ملكية الموقوف.
أما علّة ثبوت ملكية حق الابتكار بالنسبة لورثة المؤلف فهي ماليته، وبما أن المالية ثابتة في الابتكار للمؤلف، فإن الورثة يرثون مال المؤلف فيرثون الحق المالي في الابتكار، ولا مسوغ شرعا ًولا عقلاً بأن تستغل دور النشر الكتاب وتربح هي ويحجب ورثة المؤلف عن هذا الحق المالي دون مسوغ للحجب عن هذا الإرث.
10- معاوضة الحق المادي في الابتكار:
عرفنا أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين، فقلة منهم لم يعتبروا الابتكار مالا ً، ومن ثم فإنهم لا يجيزون معاوضته بمال، فيرون أن المؤلف ليس له أن يتقاضى أي عوض مقابل إبداعاته العلمية وأما السواد الأعظم من العلماء فقد اعتبروا الابتكار مالا ً، ومن ثم فإنهم أجازوا أخذ العوض في مقابلة الابتكار.
وسنبحث هنا عن الطريقة التي يمكن من خلالها أن يحصل المؤلف على المال والتكييف الفقهي لعلاقة صاحب الابتكار مع الناشر.
أ- فإن رفع المؤلف يده عن حقه المادي كليا ً، فهذا بيع، ويقع على النسخة الأصلية، ومن ثم يخّول المشتري لهذا الحق بطبع ما شاء من النسخ، وفي أي وقت شاء، وتنقطع صلة المؤلف المادية بالمؤلف مع ملاحظة أن المشتري إنما يشتري الحق المادي فقط، أما الحق العلمي المعنوي المتمثل في نسبة الابتكار إلى صاحبه فلا يقع في العقد أصلا ً ولا يمكن التنازل عنه.
ب- وإن رفع المؤلف يده جزئيا ً إلى مدة محدودة عن حقه المادي، فهذا إجارة، فيستأجر الطابع أو الناشر نسخة المؤلف الأصلية لينسخ عنها ألف نسخة مثلا ً، أو ينسخ عنها مدة عشر سنوات بأجر مقدر معلوم أو بنسبة مئوية ك 10 % من ثمن النسخة وبعد انتهاء المدة يعود الحق المادي إلى المؤلف.
11- سرقة حق الابتكار:
قد يتعدى أحدهم على حق المؤلف في مؤلفه العلمي، إمّا بنسبة الكتاب إلى نفسه، وإمّا بطباعة الكتاب الذي يحظى بالحماية دون إذن، وهذا اعتداء على الحق المالي للمؤلف، ومن أجل بيان حكم هذه المسألة لا بد من عرض موجز لحد السرقة من أجل استنباط الحكم.
1- تعريف حد السرقة:
الحد لغة: الحاجز بين شيئين، والمنع، وسمي حد السرقة بذلك لأنه يمنع من معاودتها.
والحد اصطلاحا ً: عقوبة مقدّرة.
ويكون تقديرها بالكتاب والسنة، ويعود تقدير العقوبة في التعزيز إلى القاضي.
- السرقة لغة: أخذ شيء خفية.
- وشرعا ً: أخذ المال خفية وظلما ً من حرز مثله بشروط
2- عقوبة السارق: عقوبة السارق قطع يده اليمنى، لقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما).
وتجب العقوبة لمن توافرت فيه شروط السرقة، فإن تخلف شرط من الشروط، فالواجب التعزيز.
3- شروط المسروق: للمسروق شروط متعددة إن توافرت طبقت عقوبة الحد، وإن تخلّف واحد منها فلا قطع على السارق وإنما يعزّر، وسأذكر الشروط بشكل موجز.
أ- أن يكون المسروق مالا ً: أي يتموله الناس، ويعدّونه مالا ً، فلا قطع بما ليس بمال من الأشياء التافهة، ولا قطع بسرقة خمر وخنزير وميتة ودم، لعدم المالية.
ب- أن يكون المسروق نصابا ً، والنصاب هو الحدّ الأدنى من المقدار الذي يقطع به السارق، فإن كان المال المسروق أقل من النصاب فلا قطع.
ونصاب السرقة عند الحنفية دينار أو عشرة دراهم، وعند الجمهور ربع دينار أو ثلاثة دراهم.
و الدينار = 4.25 غ من الذهب.
و الدرهم = 2.975 غ من الفضة.
ج- أن يكون المسروق محرزا ً.
الحرز: هو المكان الذي يحفظ فيه المتاع عادة، بحيث لا يستطيع الناس أخذ المال بسهولة، بل لا بد من الأخذ خفية، بحيث لا يعدّ المالك مفرطّا ً.
وينقسم الحرز إلى قسمين: حرز بنفسه وحرز بغيره.
فالحرز بنفسه: كلّ بقعة معدة للإحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بإذن كالدور، فيقطع السارق من هذا الحرز وإن لم يكن فيه أحد، إذا تحققت بقية الشروط.
والحرز بغيره: كل ّ مكان غير معدّ للإحراز يدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه، كالمساجد والطرق والمدارس، فإن كان حافظ يحفظ المتاع فهو حرز، وإلا فهو في حكم الصحراء.
4- هل تطبق عقوبة السرقة على سارق حق الابتكار؟
عرفنا أن الابتكار يتضمن حقين، الحق العلمي، والحق المادي، وسأبين حكم سرقة الحقين:
سرقة الحق العلمي:
تكمن سرقة الحق العلمي بانتحال أحدهم مؤلَّفا ً علميا ً، فيأخذ المادة العلمية في الكتاب كما هي، ويحذف اسم المؤلف ويضع اسمه مكانه.
وبما أن هذا الحق معنوي مجرد، وهو ليس بمال، فلا تطبق على السارق عقوبة السرقة بل يعزّر بما يراه القاضي مناسبا ً، وتعاد نسبة الكتاب إلى المؤلف.
و إن تقدم بالكتاب لنبل درجة علمية، فإن الشهادة التي منحت له تسحب منه.
ب- سرقة الحق المادي:
عرفنا عند ذكر مالية الابتكار أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين، فقلة منهم ترى أن الابتكار لا يتضمن الحق المالي، فهو حق معنوي مجرد، أمّا السواد الأعظم من العلماء فالابتكار عندهم يتضمن الحق المادي.
وبناء على القول الأول، فإنه لا مانع شرعا ً من طباعة الكتاب الذي يحظى بالحماية في عُرف الناس، وما تكتبه دور النشر أن حقوق الطبع والنشر محفوظة، فلا يعوّل عليه فكل من أراد طبع الكتاب أو تصويره لا يمنع من ذلك ولا يعد آثما ً.
و أما على قول السواد الأعظم من العلماء الذين قالوا بمالية الابتكار فإن الحكم يتخرج وفقا ً لطبيعة الابتكار وشروط المسروق.
- وقد عرفنا أن الحق المادي في الابتكار هو من حقوق العباد، وأن منفعة العلم تنعكس على، المجتمع، ففيه إذن حق الله تعالى، ولذلك نفرق بين طباعة الكتابة وبين تصويره.
1- طباعة الكتاب: إذا كان الكتاب يحظى بالحماية، حيث تكتب دار النشر أن حقوق الطبع محفوظة لها أو للمؤلف، فليس لدار أخرى طباعة الكتاب ونشره، فإن طبعت فالفعل محرم، وهل تطبق عقوبة السرقة على الطابع؟.
للجواب عن ذلك نعرض الحق المادي في الابتكار على شروط المسروق، وقد عرفنا أن شروط المسروق هي أن يكون مالا ً، وأن يبلغ نصابا ً وأن يكون محرزا.
- أما الشرط الأول: فمتحقق لأن الحق المادي مال.
- أما الشرط الثاني: فيتحقق تبعا ً لقيمة النسخة وعدد النسخ المطبوعة.
- وأما شرط الحرز فمتخلف، لأن الحق المادي في الابتكار ليس بمحرز، فقد عرفنا أن الحرز هو المكان الذي تحفظ فيه السلعة عادة فلاّ تكون السرقة إلا خفية، ومع هتك الحرز.
- وبما أن الكتاب مطبوع ومعروض للبيع في دور النشر، فإن أي شخص يمكنه شراء الكتاب وتملكه، ثم طباعة آلاف النسخ عنه، مع أننا نقول هو ملك النسخة المشتراة، ولم يملك الحق المادي في الابتكار فإن الذي يظهر أن عقوبة السرقة لا تطبق لعدم تحقق معنى الحرز.
- إلا أن هذا لا يعفي إعفاء الطابع من العقوبة كليا ً، فقد عرفنا أنه تخلف شرط من شروط السرقة فالواجب تطبيق عقوبة التعزير، فيعزره الحاكم بما يراه مناسبا ً.
- بالإضافة إلى تضمينه قيمة الحق المادي في الابتكار، وتعرف هذه القيمة من خلال عدد النسخ المطبوعة بعد إسقاط التكاليف التي بذلها الطابع.
2- تصوير الكتاب:
قد يصوّر أحدهم الكتاب الذي يحظى بالحماية كلّه، أو قد يصوّر صفحات منه دون تصوير كامل الكتاب.
- أمّا تصوير كامل الكتاب، فالأصل فيه المنع، لأن في هذا اعتداء على الحق المادي للمؤلف، هذا إذا كان الكتاب متوافرا ً في الأسواق، أمّا إذا كان الكتاب مفقودا ً واحتاج أحدهم إلى نسخة منه، فالذي يبدو جواز ذلك لأن من حق العامة أن ينتفعوا بالعلوم النافعة.
- على أن ما يقوم به البعض من تصوير الكتاب الموجود في المكتبات بحجة أن ثمنه غال، فغير جائز لأننا إن اعتمدنا مالية حق الابتكار، فنقيس الحق على سائر الحقوق المالية، فلو أن سلعة ارتفع سعرها واحتاج أحدهم إليها، فهذا لا يسوغ له تملكها مجانا ً.
- وأما تصوير صفحات من الكتاب، فالظاهر جوازه، لجواز الاقتباس من الكتاب، ولوجود حق الله في الابتكار، والله تعالى أعلم.....
12- زكاة حق الابتكار:
عرفنا أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين، فعلى القول بعدم مالية الابتكار فلا زكاة فيه، وعلى القول بماليته فإن المسألة تحتاج إلى تحقيق، بيان ذلك أنّ الله تعالى أوجب الزكاة في الأموال، فقال (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) والابتكار مال.
إلا أن لوجوب الزكاة في الأموال شروط لا بد من تحققها، ثم إن الأصناف التي تجب فيها الزكاة متعددة، ويبدو أن الابتكار يعدّ من عروض التجارة.
وتجب الزكاة في عروض التجارة عند عامة أهل العلم باستثناء الظاهرية لقول النبي صلى الله عليه وسلم (في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البزّ صدقته) والبزّ هو القماش، وتصبح الأموال عروض تجارة بتحقق أمرين اثنين.
1- الملكية الثابتة: واشترط الجمهور أن تملك مقابل عوض، وزاد الإمام أحمد وأبو يوسف من الحنفية العروض المملوكة لقاء فعل كقبول الهدية واكتساب المباحات.
2- نيّة التجارة: ولا بد أن تكون النية مقترنة بالتملك، وبعد هذا لا بدّ من توافر شرطين آخرين لوجوب الزكاة في عروض التجارة، وهما بلوغ النصاب، وحولان الحول.
والنصاب على أساس الذهب يساوي ما قيمته 85غ من الذهب.
ويعتبر الحول عند الحنفية: في بدايته ونهايته، فلو نقص في أثنائه فإنه لا ينقطع بخلاف ما لو انعدم.
وفرق المالكية بين التاجر المدير والمحتكر: فالمدير: هو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتا ً، فيجعل لنفسه شهرا ً يزكي فيه كل عام عند نهاية الحول، والمحتكر: هو الذي يشتري السلع للتجارة وينتظر غلاءها، فلا زكاة في عروضه حتى يبيعها، فيزكيها لحول واحد ولو بقيت عنده أكثر من حول.
ويعتبر الشافعية: آخر الحول فقط، وأما الحنابلة فيعتبرونه من أوله إلى آخره، فلو نقص في أثنائه انقطع الحول.
- بعد هذا العرض الموجز لزكاة عروض التجارة، هل تنطبق زكاة عروض التجارة على حق الابتكار؟.
عرفنا أن عروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إلا عندما تملك العروض بعوض عند الجمهور وزاد الحنابلة وأبو يوسف تملكها بفعل، واتفقوا على اشتراط نية التجارة عند التملك.
ولا ينطبق الشرطان على حق الابتكار، لأن ملكية حق الابتكار لم تكن بمعاوضة، بل بالتأليف والإبداع، فتخلّف هذا الشرط عند الجمهور ولأن المؤلّف لا توجد لديه نية المتاجرة التي تكون عند التاجر، فالتاجر يشتري السلعة وينوي بيعها، وشراء سلعة أخرى وهكذا.
إلا أن الزكاة تجب في النقود التي يتقاضاها المؤلف عند معاوضته الحق المادي في الابتكار، فتجب زكاة النقود لا زكاة العروض، والله تعالى أعلم.